كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلًا؛ عاشوا في ظل الإرهاب؛ وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك. عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نسائهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال.
وفسدت نفوسهم؛ وفسدت طبيعتهم؛ والتوت فطرتهم؛ وانحرفت تصوراتهم؛ وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر.. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلًا للإرهاب والطغيان.
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها؛ وهو يقول لعماله على الأمصار موصيًا لهم بالناس: «ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم».. كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله. فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء؛ وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيدًا للحكام.. إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله..
ولقد ضربت أبشار بني إسرائل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني؛ ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني.. ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر.. فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص- فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظهر ابن قبطي من أهل مصر- لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال- غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه- من ابن فاتح مصر وحاكمها- وسافر شهرًا على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب- الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه!- وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان- وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر، وللنفوس في كل مكان- حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام- كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم؛ وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح.
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة- بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر- وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل؛ وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية؛ وتواجه موسى عليه السلام بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل!
وسنرى متاعب موسى عليه السلام في المحاولة الضخمة التي يحاولها؛ وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلًا، حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلًا، وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره!
وسنرى من خلال متاعب موسى عليه السلام متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوسًا طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت- وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها، ثم طال عليها الأمد، فبهتت صورتها، وعادت شكلًا لا روح فيه؟
إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال- لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفًا كذلك.. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات؛ ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة!
ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة. لترى فيها هذه التجربة. كما قلنا من قبل. ولعل فيها زادًا لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل.
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء مُتَبَّرٌما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلهًا وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}..
إنه المشهد السابع في القصة- مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر- ونحن فيه وجهًا لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم.
إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه؛ ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى عليه السلام باسم الله الواحد- رب العالمين- الذي أهلك عدوهم؛ وشق لهم البحر؛ وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون.. إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها؛ ولكن ها هم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين، عاكفين على أصنام لهم، مستغرقين في طقوسهم الوثنية؛ وإذا هم يطلبون إلى موسى- رسول رب العالمين- الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد، أن يتخذ لهم وثنًا يعبدونه من جديد!
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}!
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام! ولكنها لا تصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية. وطبيعة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم عرضًا صادقًا دقيقًا أمينًا في شتى المناسبات- طبيعة مخلخلة العزيمة، ضعيفة الروح، ما تكاد تهتدي حتى تضل، وما تكاد ترتفع حتى تنحط، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس.. ذلك إلى غلظ في الكبد، وتصلب عن الحق، وقساوة في الحس والشعور! وها هم أولاء على طبيعتهم تلك، ها هم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عامًا منذ أن جاءهم موسى عليه السلام بالتوحيد- فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عامًا منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازًا ببني إسرائيل البحر- بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين! وهؤلاء كانوا وثنيين، وباسم هذه الوثنية استذلوهم- حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم: {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك}.. ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم: رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه.. آلهة؟ ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة.. ولكنما هي إسرائيل!..
ويغضب موسى عليه السلام غضبة رسول رب العالمين، لرب العالمين- يغضب لربه سبحانه ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب:
{قال إنكم قوم تجهلون}..
ولم يقل تجهلون ماذا؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل.
الجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة؛ وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد؛ وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق..
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر؛ وبوحدانية هذا الخالق المدبر. فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر- وفق المنهج الصحيح- وما يغفل عن ذلك كله، أو يعرض عن ذلك كله، إلا الحمقى والجهال. ولو ادعوا العلم كما يدعيه الكثيرون!
ويمضي موسى عليه السلام يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون، بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم، فأرادوا أن يقلدوهم:
{إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون}..
إن ما هم فيه من شرك، وعكوف على الآلهة، وحياة تقوم على هذا الشرك، وتتعدد فيها الأرباب، ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة، ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط.. إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة.. إن هذا كله هالك باطل؛ ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف!
ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى عليه السلام على ربه والغضب له سبحانه والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم- وهي حاضرة ظاهرة-:
{قال أغير الله أبغيكم إلهًا وهو فضلكم على العالمين}..
والتفضيل على العالمين- في زمانهم يتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين. وليس وراء ذلك فضل ولا منة. فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة. كما أنه اختارهم ليورثهم الأرض المقدسة- التي كانت إذا ذاك في أيد مشركة- فكيف بعد هذا كله يطلبون إلى نبيهم أن يطلب لهم إلهًا غير الله؛ وهم في نعمته وفضله يتقلبون؟!
وعلى طريقة القرآن الكريم في وصل ما يحكيه عن أولياء الله بما يحكيه عن الله سبحانه يستطرد السياق بخطاب من الله تعالى موصول بكلام موسى عليه السلام موجه كذلك لقومه:
{وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}..
وفي مثل هذا الوصل في القرآن الكريم، بين كلام الله سبحانه وما يحكيه من كلام أوليائه، تكريم أي تكريم لهؤلاء الأولياء لا ريب فيه!
وهذه المنة التي يمتنها الله على بني إسرائيل- في هذا الموضع- كانت حاضرة في أذهانهم وأعصابهم.
ولقد كانت هذه المنة وحدها كفيلة بأن تذكر وتشكر.. والله سبحانه وتعالى يوجه قلوبهم لما في ذلك الابتلاء من عبرة.. ابتلاء العذاب وابتلاء النجاة. الابتلاء بالشدة والابتلاء بالرخاء..
{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}..
فما كان شيء في ذلك كله جزافًا بلا تقدير. ولكنه الابتلاء للموعظة وللتذكير. وللتمحيص والتدريب. وللإعذار قبل الأخذ الشديد. إن لم يفلح الابتلاء في استصلاح القلوب!
وينتهي هذا المشهد بين موسى وقومه، ليبدأ المشهد الثامن الذي يليه.. مشهد تهيؤ موسى عليه السلام للقاء ربه العظيم؛ واستعداده للموقف الهائل بين يديه في هذه الحياة الدنيا؛ ووصيته لأخيه هارون عليه السلام قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم:
{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}..
لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها. انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه؛ وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة، وفي طريقهم إلى الأرض المقدسة.. ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى.. مهمة الخلافة في الأرض بدين الله.. ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قومًا يعكفون على أصنام لهم؛ وتخلخلت عقيدة التوحيد التي جاءهم بها موسى عليه السلام ولم يمض إلا القليل! فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم؛ وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم.. ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه. وكانت هذه المواعدة إعدادًا لموسى لنفسه، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم، ويستعد لتلقيه.